فصل: مسألة (فيما إذا دُفِعَتْ زَكَاةٌ إِلَى مُسْتَحِقٍّ لَهَا فِي الظَّاهِرِ فَبَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا فِي الْبَاطِنِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مسألة [في أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ ضُرِبَ عَلَيْهِ الْبَعْثُ فِي الْغَزْوِ وَلَمْ يُعْطَ، فَإِنْ قَالَ لَا أَغْزُو وَاحْتَاجَ أُعْطِيَ، فَإِنْ هَاجَرَ بَدَوِيٌّ (وَاحتَاجَ) وَاقْتَرَضَ وَغَزَا صَارَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَأَخَذَ فِيهِ، وَلَوِ احْتَاجَ وَهُوَ فِي الْفَيْءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الصَّدَقَاتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْفَيْءِ وَيَعُودَ إِلَى الصَّدَقَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمْ مَالُ الْفَيْءِ دُونَ الصَّدَقَاتِ، وَأَهْلُ الصَّدَقَاتِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمْ مَالُ الصَّدَقَاتِ دُونَ الْفَيْءِ، وَضَرْبٌ هُمْ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَّا غُزَاةُ أَهْلِ الْفَيْءِ فَهُمُ الْمُقْتَرِضُونَ فِي دِيوَانَ الْفَيْءِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ فَهُمْ لَا يُعْطَوْنَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَأَمَّا غُزَاةُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَهُمُ الْمُتَطَوِّعَةُ مِنَ الْأَعْرَابِ وَأَهْلِ الصَّنَائِعِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ إِنْ شَاءُوا غَزَوْا وَإِنْ شَاءُوا أَقَامُوا، فَهَؤُلَاءِ إِذَا أَرَادُوا الْغَزْوَ أُعْطُوا مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: كَانَ أَهْلُ الْفَيْءِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَأَهْلُ الصَّدَقَاتِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مُعْتَرِضًا فِي دِيوَانِهِ ضُرِبَ عَلَيْهِ الْبَعْثُ فِي الْغَزْوِ أَوْ لَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهِ فَأَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالدُّخُولَ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ لِيَغْزُوَ إِنْ شَاءَ وَيَقْعُدَ عَنْهُ إِنِ اخْتَارَ كَانَ ذَلِكَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ جُعَالَةٌ فَيَسْقُطُ رِزْقُهُ مِنْ دِيوَانَ الْفَيْءِ وَيُعْطَى مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَلَوْ أَنَّ أَعْرَابِيًّا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ هَاجَرَ وَأَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْ دِيوَانَ الْفَيْءِ جَازَ أَنْ يُقْرِضَهُ الْإِمَامُ، فَإِذَا رَآهُ الْإِمَامُ أَهْلًا لِذَلِكَ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ.

.مسألة [في قسمة الصدقات على الموجودين من الأصناف الثمانية]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِقَابٌ وَلَا مُؤَلَّفَةٌ وَلَا غَارِمُونَ، ابْتُدِئَ الْقَسْمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ أَخْمَاسًا عَلَى مَا وَصَفْتُ، فَإِنْ ضَاقَتِ الصَّدَقَةُ قُسِّمَتْ عَلَى عَدَدِ السُّهْمَانِ وَيُقَسَّمُ بَيْنَ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَلَا يُعْطَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ سَهْمٍ وَإِنِ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ وَقَلَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ سَهْمِ غَيْرِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ، ثُمَّ يُرَدُّ فَضْلٌ إِنْ كَانَ عَنْهُ وَيُقَسَّمُ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ مَضَتْ، فَذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ السُّهْمَانِ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ، فَإِنْ كَمَلُوا قُسِّمَتِ الزَّكَاةُ أَثْمَانًا بَيْنَهُمْ مُتَسَاوِيَةً، وَإِنْ عَدِمُوا أصناف مصارف الزكاة نُقِلَتْ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ، وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُمْ قُسِّمَتْ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ وَسَقَطَ سَهْمُ مَنْ عَدِمَ، إِلَّا الْغُزَاةُ فَإِنَّهُمْ يَسْكُنُونَ الثُّغُورَ فَيُنْقَلُ إِلَيْهِمْ سَهْمُهُمْ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْقَاسِمَ لَهَا. فَأَمَّا إِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِقَسْمِهَا سَقَطَ سَهْمُهُمْ إِنْ عَجَزَ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَيْهِمْ: لِأَنَّ الْإِمَامَ يَقْدِرُ عَلَى نَقْلِ سَهْمِهِمْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فَافْتَرَقَ الْحُكْمُ فِيهِ.

.مسألة [فيما إذا كان مال الزكاة ينقسم ويتجزأ وما إذا كان لا ينقسم ولا يتجزأ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنِ اجْتَمَعَ حَقُّ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي بَعِيرٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، أَوْ شَاةٍ، أَوْ دِينَارٍ، أَوْ دِرْهَمٍ، أَوِ اجْتَمَعَ فِيهِ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ أَوْ أَكْثَرُ أُعْطَوْهُ وَيُشْرَكُ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَلَمْ يُبْدَلْ بِغَيْرِهِ كَمَا يُعْطَاهُ مَنْ أُوصِيَ لَهُمْ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ يَنْقَسِمُ قَلِيلُهُ وَيَتَجَزَّأُ كَالْحُبُوبِ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ حَقَّهُ مِنْهُ وَلَمْ يُشْرِكْ فِيهِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الشَّرِيكِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ، كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَإِنِ اتَّسَعَتِ الصَّدَقَةُ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبَعِيرٍ لَهُ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ، لَمْ يُشْرِكْ بَيْنَهُمْ وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَقِّهِ، وَإِنْ ضَاقَتِ الصَّدَقَةُ عَنْ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُشْرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْبَقَرَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ، سَوَاءً كَانَتِ الْجَمَاعَةُ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ أَوْ أَصْنَافٍ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ: لِأَنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ كَانُوا فِي الظَّاهِرِ شُرَكَاءَ بِالسَّوِيَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ ذَلِكَ وَيُقَسِّمُ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ قَبْلَ أَنْ يُمَلِّكَهُ إِيَّاهُمْ: لِأَنَّ الْقِيَمَ فِي الزَّكَاةِ لَا تُجَزَّأُ، وَسَوَاءً كَانَ الْقَاسِمُ رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلَ: لِأَنَّهُمْ أَهَلُ رُشْدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ بِعَجْزِ أَرْبَابِ السِّهَامِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ الْعَامِلَ الضَّرُورَةُ إِلَى بَيْعِهِ وَإِمَّا لِعَطَبِ الْحَيَوَانِ وَخَوْفِهِ مِنْ تَلَفِهِ وَإِمَّا لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَإِحَاطَةِ مَئُونَةِ نَقْلِهِ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَاتَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بَيْعُهُ لِلضَّرُورَةِ وَقَسْمُ ثَمَنِهِ فِيهِمْ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ بِحَالٍ لِثُبُوتِ الزَّكَاةِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ دُونَ الْعَامِلِ وَأَنَّ لِلْعَامِلِ وِلَايَةً لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ.
قال الشَّافِعِيُّ: وَكَذَلِكَ مَا يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ. يَعْنِي فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَتَجُوزُ لِلْعَامِلِ دُونَ رَبِّ الْمَالِ.

.مسألة [فيما إذا دُفِعَتْ زَكَاةٌ إِلَى مُسْتَحِقٍّ لَهَا فِي الظَّاهِرِ فَبَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا فِي الْبَاطِنِ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا أَعْطَى الْوَالِي مَنْ وَصَفْنَا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ نَزَعَ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَى أَهْلِهِ، فَإِنْ فَاتَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ: لِأَنَّهُ أَمِينٌ لِمَنْ يُعْطِيهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ لَا لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ: لِأَنَّهُ كُلِّفَ فِيهِ الظَّاهِرَ، وَإِنْ تَوَلَّى ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَضْمَنُ، وَالْآخَرُ كَالْوَالِي لَا يَضْمَنُ.
(قَالَ الْمُزَنِيُّ): وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي الزَّكَاةِ أنَّ رَبَّ الْمَالِ يَضْمَنُ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي زَكَاةٍ دُفِعَتْ إِلَى مُسْتَحِقٍّ لَهَا فِي الظَّاهِرِ فَبَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا فِي الْبَاطِنِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ الضَّمَانُ فِيهِ عَلَى الدَّافِعِ وَاجِبًا، سَوَاءً كَانَ الدَّافِعُ لَهَا إِمَامًا أَوْ مَالِكًا. وَالثَّانِي: مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ، سَوَاءً كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا. وَالثَّالِثُ: مَا يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الدَّافِعِ إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَالِكًا فَهُوَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُ عَلَى سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ كَالْمُكَاتَبِ وَالْغَارِمِ، فَإِذَا دَفَعَهَا إِلَى مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مُكَاتَبٌ، أَوْ غَارِمٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَاتَبٍ وَلَا غَارِمٍ فَعَلَى الدَّافِعِ الضَّمَانُ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَالِكًا: لِأَنَّ إِخْلَالَهُ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ تَفْرِيطٌ مِنْهُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ كَانَ مُسْتَرْجِعًا لَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِوُجُوبِ ضَمَانِهَا عَلَيْهِ، فَلَوْ دَفَعَهَا بِبَيِّنَةٍ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ شَهِدَتْ بِزُورٍ أَوْ خَطَأٍ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ ضَامِنَةً، فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ إِمَامًا ضَمِنَتِ الْبَيِّنَةُ ذَلِكَ لَأَهْلِ السُّهْمَانِ وَكَانَ الْإِمَامُ بَرِيئًا مِنَ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ مَالِكًا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ ضَامِنَةً لِلْمَالِكِ الَّذِي هُوَ رَبُّ الْمَالِ وَكَانَ وُجُوبُهَا بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ.

.فصل [في الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي لَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِي لَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ، سَوَاءً كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا فَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ يَسْتَحْدِثُهُ كَابْنِ السَّبِيلِ وَالْغَازِي، فَلَا يُسَافِرُ ابْنُ السَّبِيلِ وَلَا يَغْزُو الْغَازِي، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ فِي الدَّفْعِ، سَوَاءً كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا: لِأَنَّ بِالدَّفْعِ قَدْ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنْ رَبِّ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُرَاعًا بِإِحْدَاثِ سَفَرٍ أَوْ جِهَادٍ، لَكِنَّ عَلَى الدَّافِعِ مُطَالَبَةَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عَامُ الزَّكَاةِ بَاقِيًا خَيَّرَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بَيْنَ رَدِّ مَا أَخَذَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ سَفَرًا وَغَزْوًا، وَإِنْ كَانَ عَامُ الزَّكَاةِ قَدِ انْقَضَى طَالَبَهُ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ: لِأَنَّ زَكَاةَ كُلِّ عَامٍ مُسْتَحَقَّةٌ لِأَهْلِهَا فِي ذَلِكَ الْعَامِ لَا فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ حَتَّى سَافَرَ وَغَزَا فِي الْعَامِ الثَّانِي نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنْ زَكَاةٍ ثَانِيَةٍ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ: لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مَا اسْتَحَقَّهُ بِسَفَرِهِ وَغَزْوِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْخُذْ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنْ زَكَاةٍ ثَانِيَةٍ يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ وَكَانَتْ بِمَثَابَةِ زَكَاةٍ أُخِّرَتْ مِنْ عَامٍ إِلَى عَامٍ، فَإِنَّهَا تَقَعُ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ، وَإِنْ كَرِهَ التَّأْخِيرَ مَعَ إِمْكَانِ التَّعْجِيلِ، فَلَوْ مَاتَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَبْلَ السَّفَرِ وَالْغَزْوِ وَلَمْ يَكُنِ اسْتِرْجَاعُ مَا أَخَذَ، كَانَ ذَلِكَ تَالِفًا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ.

.فصل [في الْقِسْمِ الثَّالِثِ الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ الضَّمَانُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الدَّافِعِ في الزكاة]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ الضَّمَانُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الدَّافِعِ في الزكاة إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ فَيَبِينُ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَسْتَحِقَّهَا لِعَدَمِ الْفَقْرِ. وَالثَّانِي: أَلَّا يَسْتَحِقَّهَا مَعَ وُجُودِ الْفَقْرِ لِسَبَبٍ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْأَخْذِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى رَجُلٍ ظَنَّ بِهِ فَقْرًا فَبَانَ غَنِيًّا، فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَمْ يَجْتَهِدْ عِنْدَ الدَّفْعِ ضَمِنَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا: لِأَنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ تَفْرِيطٌ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ عِنْدَ الدَّفْعِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَهَا إِمَامًا أَوْ وَالِيًا عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ: لِأَنَّهُ أَمِيرٌ عَلَيْهَا لَمْ يُفَرِّطْ فِيهَا، وَلَكِنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْآخِذِ لَهَا إِنْ كَانَ حَيًّا وَمِنْ تَرِكَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا، سَوَاءً شَرَطَ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهَا زَكَاةٌ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ: لِأَنَّ الْوَالِيَ لَا يَدْفَعُ مِنَ الْأَمْوَالِ إِلَّا مَا وَجَبَ، وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَهَا هُوَ رَبَّ الْمَالِ فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ كَالْإِمَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْإِمَامِ عَلَيْهَا وِلَايَةً لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا إِلَّا بِالْعُدْوَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِمَامَ بَرِيءُ الذِّمَّةِ مِنْ ضَمَانِهَا قَبْلَ الدَّفْعِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا إِلَّا بِتَفْرِيطٍ ظَاهِرٍ. وَرَبُّ الْمَالِ مُرْتَهِنُ الذِّمَّةِ بِضَمَانِهَا قَبْلَ الدَّفْعِ؛ فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهَا إِلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ ظَاهِرٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الْيَقِينِ فَلَمْ يَضْمَنْ إِذَا اجْتَهَدَ وَرَبُّ الْمَالِ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا بِيَقِينٍ وَهُوَ الْإِمَامُ مَضْمُونَةٌ إِذَا دَفَعَهَا بِالِاجْتِهَادِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا نُظِرَ فِي رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ شَرَطَ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهَا زَكَاةٌ كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْآخِذِ لَهَا إِذَا كَانَ غَنِيًّا وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عِنْدَ الدَّفْعِ نَظَرَ فِي الْآخِذِ لَهَا، فَإِنْ صَدَّقَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ لَزِمَهُ رَدُّهَا وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهَا، بِخِلَافِ الْإِمَامِ: لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ يُعْطِي فَرْضًا وَتَطَوُّعًا فَلَمْ يَسْتَرْجِعْ إِلَّا بِشَرْطٍ، وَالْإِمَامُ لَا يُعْطِي إِلَّا فَرْضًا وَاجِبًا، فَجَازَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَكَانَ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ مَقْبُولًا وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الْإِمَامِ وَرَبِّ الْمَالِ فِي جَوَازِ الِاسْتِرْجَاعِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ إِحْلَافُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخَذَهُ تَعْجِيلٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ إِحْلَافُهُ: لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ لَزِمَهُ الرَّدُّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ: لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَرِّطُ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ التَّعْجِيلَ، وَقَالَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ: لَمْ يَشْتَرِطْ، كَانَ لَهُ إِحْلَافُهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ.

.فصل [فيمن دفعت إليه الزكاة وهو غير مستحق لها]:

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا مَعَ الْفَقْرِ لِسَبَبٍ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْأَخْذِ كَفَقِيرٍ دُفِعَتْ إِلَيْهِ وَظَاهِرُهُ الْحُرِّيَّةُ فَبَانَ عَبْدًا، الزكاة أَوْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ فَبَانَ كَافِرًا، أَوْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ فَبَانَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَمْ يَجْتَهِدْ فِي الْآخِذِ لَهَا عِنْدَ الدَّفْعِ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالِيًا كَانَ أَوْ مَالِكًا، وَإِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَطَأَ فِي ذَلِكَ كَالْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ، فَلَا يَضْمَنُ إِنْ كَانَ وَالِيًا، وَفِي ضَمَانِهِ إِنْ يَكُنْ مَالِكًا قَوْلَانِ، فَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْخَطَأَ فِي هَذَا أَخَصُّ بِالضَّمَانِ مِنَ الْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ؛ فَيَضْمَنُ الدَّافِعُ إِنْ كَانَ مَالِكًا، وَفِي ضَمَانِهِ إِنْ كَانَ وَالِيًا قَوْلَانِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ وَبَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ يَقِينُ الْفَقْرِ قَطْعًا، فَجَازَ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ. وَيُعْلَمُ يَقِينُ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ قَطْعًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ. مِثَالُهُ: أَنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ أَوْ مُحْدِثٍ لَمْ يُعِدْ صَلَاتَهُ: لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ يَقِينَ طَهَارَةِ إِمَامِهِ قَطْعًا، فَإِذَا عَمِلَ فِيهَا عَلَى الظَّاهِرِ لَمْ يُعِدْ، وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ امْرَأَةٍ أَوْ كَافِرٍ أَعَادَ: لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ يَقِينَ كَوْنِ إِمَامِهِ رَجُلًا مُسْلِمًا، فَإِذَا عَمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ أَعَادَ. وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ خَطَأِ الْوَالِي وَالْمَالِكِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ وَبَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَفِيمَا مَضَى دَلِيلٌ كَافٍ.

.مسألة: يُعْطَى الْوُلَاةُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ وَالْمَعْدِنِ وَالْمَاشِيَةِ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُعْطَى الْوُلَاةُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ وَالْمَعْدِنِ وَالْمَاشِيَةِ، دفعها للولاة فَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْوُلَاةُ لَمْ يَسَعْ أَهْلَهَا إِلَّا قَسْمُهَا، فَإِنْ جَاءَ الْوُلَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَأْخُذُوهُمْ بِهَا وَإِنِ ارْتَابُوا بِأَحَدٍ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَلِّفُوهُ بِاللَّهِ لَقَدْ قَسَمَهَا فِي أَهْلِهَا، وَإِنْ أَعْطَوْهُمْ زَكَاةَ التِّجَارَاتِ وَالْفِطْرِ وَالرَّكَازِ أَجْزَأَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْوَالَ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ كَالثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْمَوَاشِي، وَبَاطِنَةٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ وَالرَّكَازِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا بَاطِنًا لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إِلَى الْإِمَامِ وَجَازَ لِأَرْبَابِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَهَا وَقَسْمَهَا فِي أَصْلِهَا وَإِنْ دَفَعُوهَا إِلَى الْوُلَاةِ جَازَ وَمَا كَانَ مِنْهَا ظَاهِرًا فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهَا كَالْبَاطِنَةِ يَجُوزُ لِأَهْلِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَ زَكَاتِهَا وَلَا يَلْزَمُهُمْ دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِمْ دَفْعَ زَكَاتِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ عَامِلِهِ عَلَيْهَا وَلَا يَجُوزُ لِأَرْبَابِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَهَا بِأَنْفُسِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ عَامِلِهِ عَلَيْهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ.
فَإِنْ تَأَخَّرَ الْإِمَامُ وَعَامِلُهُ وَتَعَذَّرَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ دَفْعُ زَكَاتِهِمْ إِلَيْهِ فَهَلْ لَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ إِخْرَاجُهَا بِأَنْفُسِهِمْ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَتَكُونُ مَحْبُوسَةً عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ فَيَتَوَلَّى إِخْرَاجَهَا: لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ قَدْرَ مَالٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى غَيْرِهِ لِتَأَخُّرِهِ كَالدُّيُونِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجِبُ عَلَى أَهْلِهَا تَعْجِيلُ إِخْرَاجِهَا بِأَنْفُسِهِمْ إِذَا تَأَخَّرَ الْوَالِي عَنْهُمْ: لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِجِهَاتٍ يُمْكِنُ إِيصَالُهُ إِلَيْهَا وَالْوَالِي نَائِبٌ، وَتَأَخُّرُ الْوَالِي النَّائِبِ لَا يُوجِبُ تَأَخُّرَ الْحَقِّ كَالْوَالِي وَالْوَكِيلِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا أَرْبَابُهَا عِنْدَ تَأَخُّرِ الْوَالِي، ثُمَّ حَضَرَ فَأَخْبَرُوهُ بِإِخْرَاجِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ وَلَهُ إِحْلَافُهُمْ إِنِ اسْتَرَابَ بِهِمْ وَفِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ بِالْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ لَا بِالنُّكُولِ، وَقَدْ مَضَى تَعْلِيلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.